السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آاله
وصحبه اجمعين , أما بعد :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه
وسلم بمنكبيّ فقال : ( كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل )
رواه البخاري.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : ' إذا أمسيت فلا تنتظر
الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ،
ومن حياتك لموتك ' . رواه البخاري .
عندما نتأمل في حقيقة هذه الدنيا ، نعلم أنها لم تكن يوما دار إقامة
، أو موطن استقرار ، ولئن كان ظاهرها يوحي بنضارتها وجمالها ، إلا
أن حقيقتها فانية ، ونعيمها زائل ، كالزهرة النضرة التي لا تلبث أن
تذبل ويذهب بريقها .
تلك هي الدنيا التي غرّت الناس ، وألهتهم عن آخرتهم ، فاتخذوها
وطنا لهم ، ومحلاً لإقامتهم ، لا تصفو فيها سعادة ، ولا تدوم فيها
راحة ، ولا يزال الناس في غمرة الدنيا يركضون ، وخلف حطامها
يلهثون ، حتى إذا جاء أمر الله انكشف لهم حقيقة زيفها ، وتبين لهم
أنهم كانوا يركضون وراء وهم لا حقيقة له ، وصدق الله العظيم إذ
يقول : { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } ( آل عمران : 185 ) .
وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليترك أصحابه دون أن يبيّن لهم
ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم في الدنيا ، ودون أن يحذّرهم
من الركون إليها ؛ فهو الرحمة المهداة ، والناصح الأمين ، فكان
يتخوّلهم بالموعظة ، ويضرب لهم الأمثال ، ولذلك جاء هذا الحديث
العظيم بيانا وحجة ووصية خالدة .
لقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبيّ عبدالله بن عمر رضي
الله عنهما ؛ ليسترعي بذلك انتباهه ، ويجمع إليه فكره ، ويشعره
بأهمية ما سيقوله له ، فانسابت تلك الكلمات إلى روحه مباشرة : (
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) .
رواه البخاري.
وانظر كيف شبّه النبي صلى الله عليه وسلم مُقام المؤمنين في
الدنيا بحال الغريب ؛ فإنك لا تجد في الغريب ركونا إلى الأرض التي
حل فيها ، أو أنسا بأهلها ، ولكنه مستوحش من مقامه ، دائم القلق
، لم يشغل نفسه بدنيا الناس ، بل اكتفى منها بالشيء اليسير .
لقد بيّن الحديث غربة المؤمن في هذه الدنيا ، والتي تقتضي منه
التمسّك بالدين ، ولزوم الاستقامة على منهج الله ، حتى وإن فسد
الناس ، أو حادوا عن الطريق ؛ فصاحب الاستقامة له هدف يصبو
إليه ، وسالك الطريق لا يوهنه عن مواصلة المسير تخاذل الناس ،
أو إيثارهم للدعة والراحة ، وهذه هي حقيقة الغربة التي أشار إليها
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود
كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء ) رواه مسلم .
وإذا كان المسلم سالكاً لطريق الاستقامة ، حرص على قلّة
مخالطة من كان قليل الورع ، ضعيف الديانة ، فيسلم بذلك من
مساويء الأخلاق الناشئة عن مجالسة بعض الناس كالحسد
والغيبة ، وسوء الظن بالآخرين ، وغير ذلك مما جاء النهي عنه ،
والتحذير منه .
ولا يُفهم مما سبق أن مخالطة الناس مذمومة بالجملة ، أو أن
الأصل هو اعتزال الناس ومجانبتهم ؛ فإن هذا مخالف لأصول
الشريعة التي دعت إلى مخالطة الناس وتوثيق العلاقات بينهم ،
يقول الله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } ( الحجرات : 13 ) ، وقد جاء في
الحديث الصحيح : ( المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على
أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم )
رواه الترمذي ، ولنا في رسول الله أسوة حسنة حين كان يخالط
الناس ولا يحتجب عنهم .
وإنما الضابط في هذه المسألة : أن يعتزل المرء مجالسة من يضرّه
في دينه ، ويشغله عن آخرته ، بخلاف من كانت مجالسته ذكرا لله ،
وتذكيرا بالآخرة ، وتوجيها إلى ما ينفع في الدنيا والآخرة .
ولنا عودة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كأنك غريب ، أو
عابر سبيل ) ، ففي هذه العبارة ترقٍّ بحال المؤمن من حال الغريب
، إلى حال عابر السبيل .
فعابر السبيل : لا يأخذ من الزاد سوى ما يكفيه مؤونة الرحلة ،
ويعينه على مواصلة السفر ، لا يقر له قرار ، ولا يشغله شيء عن
مواصلة السفر ، حتى يصل إلى أرضه ووطنه .
يقول الإمام داود الطائي رحمه الله : ' إنما الليل والنهار مراحل
ينزلها الناس مرحلة مرحلة ، حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم
، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل ؛
فإن انقطاع السفر عما قريب ، والأمر أعجل من ذلك ، فتزود لسفرك
، واقض ما أنت قاض من أمرك ' .
وهكذا يكون المؤمن ، مقبلا على ربه بالطاعات ، صارفا جهده ووقته
وفكره في رضا الله سبحانه وتعالى ، لا تشغله دنياه عن آخرته ، قد
وطّن نفسه على الرحيل ، فاتخذ الدنيا مطيّة إلى الآخرة ، وأعد
العدّة للقاء ربه ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( من كانت الآخرة همه ، جعل الله غناه
في قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ) رواه
الترمذي .
ذلك هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصله
إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ، فكان لهذا التوجيه النبوي
أعظم الأثر في نفسه ، ويظهر ذلك جليا في سيرته رضي الله عنه
، فإنه ما كان ليطمئنّ إلى الدنيا أو يركن إليها ، بل إنه كان حريصا
على اغتنام الأوقات ، كما نلمس ذلك في وصيّته الخالدة عندما قال
رضي الله عنه : ' اذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا
تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ' رواه
البخاري.
اللهم اجعلنا من عابري السبيل في هذه الدنيا ..